رحم الله امرء عرف قدر نفسه
قيل في المثل الشعبي " لسانك حصانك، إن صنته صانك، وإن هنته هانك". استوقفني هذا المثل في نقطة تلاقي الحصان باللسان وتشبيه الثاني بالأول من جهة، واختيار اللسان عن باقي أعضاء الجسم في هذا المثل من جهة أخرى.
فاذا أخذنا الغاية التي تمت بها عملية التشبيه فاننا نجد أن عملية "صون" الحصان تتم بعملية رشمه بقطعة حديدية تمتد بين الفكين بشكل عرضي لتتصل في نهايتها بحلقات يربط بها الرسن. والرسن هو مفتاح السيطرة والقيادة الذي من خلاله تتم السيطرة على حركة الحصان.
وبما أن اللسان بطبيعته الخلقية لا يتشابه بأي صفة مع الحصان من حيث الشكل، إلا أن من ضرب هذا المثل أعتمد باستخدامه التعبير الاصطلاحي مستمداً الصفه التشبيهية الصورية من ناحية التقارب المعنوي فاعتمد الاستعارة اللفظية بالتشبيه. ومربط الفرس هنا هو اللسان وليس الحصان. واللسان كما نعرف تكوينه العلمي فهوعبارة عن قطعة عضلية مرنة ومطاوعة ومتغيرة الشكل حسب الحاجة، لا تحتوي على عظم يحد من حركتها أو يشكل منظرها، فهو رغم طواعية حركته، سريع في حركته.
ومن عجائب خلق اللسان أن الله قد جعله مفردا على خلاف بقية أجزاء الرأس كالأذنين، والمنخرين والعينين والحاجبين. وإن كان في الفم لسانين لابتلينا بلاء لانظير له. فرغم أنه مفردا في خلقه إلا أن استخدامه قياسا ببقية أعضاء الجسم متعدداً وكثيراً. فاللسان ليس مقتصرا على أداء نشاط واحد، بل إنه لايكِّل ولايمل من تنوع الأداء واستمراريته، فهو الذي يتذوق الطعام لنا قبل أن نعبأ به جوفنا، فيخبرنا أن الطعام مالح، أو حامض, أو حلو، أو مر. وهو محرار الجسم فيتحسس لنا ما نشرب إن كان بارداً، أو ساخناً، أو دافئاً. وهو الذي ينظم لنا مقدار وكمية ما نشرب وما نأكل. وللسان استخدامات وواجبات أخرى غير ذلك كاشتراكه بالتعبيرات العامة للوجه، فانك إذا أردت أن تغيض شخصا ما فانك تخرج له لسانك، وإن أردت أن تعبر عن غضبك فانك تعض باسنانك عليه، وإن أردت أن تغازل به فله من المهارات ما لاتعد ولاتحصى.
وما يهمنا من مهاراته، مهارة الكلام والتصاق صفتها به، وعلى هذا الأساس ضرب المثل ومثل اللسان بالحصان. لقد ظُلم اللسان بتحمله مسؤولية الكلام لوحده رغم اشتراك أعضاء أخرى بآلية الكلام ومخارج الحروف كالحنجرة والأحبال الصوتية واللهاة والأسنان. لقد أصبح اللسان مثالا للشخصية، فهذا لسانه فصيح، وهذا لسانه "وسخ". وقد قالت العرب أن " الإنسان مخبوء تحت لسانه"، ونال من التهديد والوعيد مالم ينل أي عضو آخر، فبالوعيد والتهديد يقال " أخرس أو قطعت لك لسانك" وكأنه المسؤول الوحيد والفريد لكل ما ينطق.
لم يعط اللسان رغم كل أنشطته وفعالياته المتعددة قيمته وتقديره، ولم يحفظ بما يستحق. إن دوره في الكلام معتمدا على العضلات التي تعتبر من أنشط العضلات في الجسم من حيث تكرار الحركة، ولكن نشاطه في أغلب الأوقات في أداء الكلام، وأي كلام؟
يكون اللسان نشيطاً عندما يكون الحديث مشيناً، سيئاً، فيه نخر في ظهور الآخرين أو انتقاصا منهم، أو انتقادا لهم بدون وجه حق، ويكون أنشط من ذلك عندما يكون الحديث غيبة أو نميمة أو كذبا. ويكون كذلك في السب والشتم والبصاق على من لا نحب، وفي العناد والجدل العقيم. بينما نجده خاملاً عند تطلب أمراً مخالفاً لكل ذلك. ففي النصيحة تجده منزوياً ملجوماً، وفي الخير غارقاً في سبات عميق. أمره محيّر! ومن يتابعه في كل دقائق عمله ومفردات فعالياته اليومية يجد أكثر مما ذكر.
أرجو أن لا يؤخذ الموضوع تعميماً، فلنا في أناسنا أمثلة تخالف ما أقول. ولكن ما يراد قوله أن اللسان لايشكل مشكلة لصاحبه، بل يشكل مشكلة لمجتمع كامل وأشخاصا يتعاملون معه بشكل مباشر، فهو أصبح ليس ملكا لنا عندما يتعلق الأمر بالكلام، بل ملكاً لمجتمع كامل بكل مقاييسه الاجتماعية والثقافية. وما دعاني أن أسطر هذه الأفكار صديقي غازي ميخائيل الذي يشاطرني الرأي ويعاني ما عاناه من ألسنة مستنة كرؤوس الرماح، فذكرَّني بالحكمة القائلة "رحم الله امرء عرف قدر نفسه"
إن معرفة قدر النفس مرتبط بمقياس السيطرة على اللسان وحفظه، فان عرفت موضع الكلام وزمانه وصنته من الزلل والخلل صانك. ومن لم يعلم قدر نفسه أطلق للسانه العنان فهاج به هيجان الوحوش بالبراري بلا هدف منشود.
ان قدر أنفسنا في لساننا، وكلٌ مخبوءٌ تحت لسانه، و "رحم الله امرء عرف قدر نفسه"
فمتى نتعلم من حكمنا وأمثالنا ونعرف قدر أنفسنا؟
سؤال فيه نظر!!
باقر الموسوي